
نــداء الى الحركة النقابية العمالية حول سوريــا
حول مبادرة الاتحاد بنصرة الشعب السوري الشقيق
رسالة إلى أحرار العالم وإلى الحركة النقابية العالمية
منذ انطلاق الاحتجاجات السلمية في سوريا سنة 2011 للمطالبة بالديمقراطية، ومع بوادر التدخّل الخارجي في مجريات هذا الحراك وتحوّله المفاجئ إلى العنف والقوّة واستعمال السلاح، بادر الاتحاد العام التونسي للشّغل إلى التعبير عن حقّ الشعب السوري في التوق إلى الديمقراطية والنضال السلمي من أجل فرض التعدّد والتداول وحقّ الاختلاف، معتبرا ذلك شأنا سوريا داخليا لبلد يعيش حربا من الأربعينات من القرن الماضي بوصفه بلدا من بلدان الطوق الفلسطيني ومعني بمواجهة الاحتلال الإسرائيلي مباشرة لجزء من أراضيه في الجولان إلى الآن. ولقد نبّه الاتّحاد في الآن نفسه من بوادر العنف التي استعدّ إليها البعض مسبقا بالسلاح والتجنيد والتسفير عبر مناطق العالم إلى سوريا، كما حذّر من التدخّل الأجنبي بذريعة ” إنقاذ الشعب السوري وفرض التحوّل الديمقراطي. ومن خلف هذا الحلف تقف”اسرائيل” بكل استخباراتها وتجهيزاتها العسكرية (تسهيل عبور الإرهابيين وتسليحهم واختراقهم بعملاء من الجيش الإسرائيلي واحتضان الجرحى منهم للعلاج في مستشفياتها) وهي أكبر المستفيدين المباشرين من الحرب على سوريا. وهي قرائن تؤكّد أنّ ما حدث ويحدث في سوريا ليس إلاّ فعلا خارجيا منذ انطلاقه.
وأكّد الاتحاد العام التونسي للشّغل أنّ الديمقراطية ضرورة تاريخية تصنعها الشعوب بإرادتها ولا تُصدّٓر على ظهر دبّابة ولا تصنع في مخابر واستوديوهات وسائل الإعلام، مستدلاّ على ذلك بتجارب الشعوب وآخرها التجربة التونسية منذ 17 ديسمبر 2010.
وكلّما تعقّدت الأوضاع واتّخذت الأحداث في سوريا منحى تصعيديا واتّجهت إلى حرب دامية ومدمّرة سيطول رحاها، إلاّ أثبتت صحّة موقف الاتحاد الذي لم يتوان عن التأكيد من جديد على المبادئ التي صرّح بها في بداية الاحتجاجات، داعيا المجتمع الدولي المدني والديمقراطي إلى الضغط على الدول المتورّطة في الملفّ السوري من أجل حلّ سياسي داخلي بين الفرقاء والكفّ عن إشعال حرب بالوكالة أدّت إلى تخريب سوريا وطالت حتى مكتسباتها التاريخية والحضارية.
وقد صدرت في الغرض وبوضوح عديد البيانات سواء عن المكتب التنفيذي الوطني او عن هيئات القرار المختلفة في الاتحاد العام. كما استغلّ النقابيون في الاتحاد كلّ الفرص والمنابر والعلاقات لتجديد التنبيه من هذه الحرب التي أتت على الأخضر واليابس في المنطقة والتي كانت لها انعكاسات دولية حتّى خارج المنطقة العربية المتقلّبة أصلا.
هي حرب استخدم فيها الغطاء الديمقراطي والإنساني مجرّد تعلّة ولكنّ وقودها الحقيقي كان تحريك النزعات العرقية والدينية والمذهبية (عرب وأكراد وأزيدية وأقليات أخرى: مسلمون ومسيحيون / علويون وشيعة وسنة …)
ورغم تأخّر الوقت، فقد جاءت مبادرة الاتحاد لفكّ العزلة عن معاناة الشعب السوري، خطوة ضرورية لتحريك الرأي العام في تونس وفي البلاد العربية وفي العالم لينتفض ضدّ هذه الحرب البشعة ويتدخّل بكلّ ثقله لوقفها والمساهمة الفعلية في إنقاذ سوريا.
وقد أكّدت مجريات الأحداث أيضا صحّة الموقف النقابي التونسي الذي نبّه من تجميع الحركة الإرهابية الدولية في كلّ من سوريا والعراق واستعدادها إلى شنّ حرب إرهابية من أبشع الحروب التي عرفها التاريخ لغاية تثبيت ما يسمّى بالدولة الإسلامية بالتفجيرات وبالانتحاريين وبالأسلحة الواردة عليه من أنحاء العالم وحتى لو أدّى الأمر إلى تهجير ثلث السوريين عبر العالم ليحكم بعد ذلك ما تبقى منهم بحدّ السيوف. وبذلك اكتشف العالم في ” داعش” بشاعة الإرهاب ووحشيته وبربريته وتخلُّفه ولا إنسانيته (كانت المجازر وعمليات الذبح وقطع الرؤوس والحرق والتفجير تنقل عبر العالم بأحدث تقنيات التصوير) كما اكتشف العالم طبيعة المجتمع البدائي والمتخلّف الذي ينوي الدواعش إرساءه (بيع النساء ومنعهن من ابسط الحقوق كالتعليم والعمل… والمتاجرة بالأطفال واستغلالهم في العمليات الانتحارية … وسلب الحقوق ومنع مظاهر التحضّر وفرض أجهزة ونظم وقوانين لا تحترم حقوق الإنسان واعتماد الاستبداد أسلوبا في الحكم مستوحى من عصور سابقة تُفقد فيها المواطنة وتسلب الحريات وتصادر الحقوق…).
وقد تزامنت زيارة وفد الاتحاد في جويلية 2017 مع تنامي وعي تونسي بالمخاطر التي أصبحت على حدود البلاد خاصّة بعد التأكّد من العدد الهائل من الشباب التونسي المغرّر به الذي تمّ نقله إلى سوريا والزج به في أتون حرب لا صلة له بها عبر شبكات التسفير الداخلية والدولية ( من تونس إلى ليبيا ومنها على تركيا أو العراق ومنها على سوريا) وهو ما سبّب من ناحية جرحا لدى مئات بل آلاف العائلات التونسية التي نكبت في أبنائها المفقودين أو المسجونين أو القتلى وبقيت تنتظر معلومات عنهم لا تملكها إلاّ الدولة السورية وقد تمّ قطع العلاقات معها، ومن ناحية أخرى سيمثّل خطرا داهما يطرق أبواب تونس في كلّ حين من العائدين من سوريا خلسة أو الذين ينوون العودة وفق ترتيبات دولية وإقليمية الأمر الذي طرح جدلا كبيرا حول مصير هؤلاء وكيفية التعامل معهم وطرق إدماجهم خاصّة أن ليس للأجهزة التونسية معطيات تفصيلية عنهم…وهو جدل أفضى إلى قرار سيادي بعدم تحويل تونس إلى معسكر تجميع لهؤلاء الإرهابيين وإلى إحداث لجنة برلمانية من أجل تحديد المسؤوليات في تسفير آلاف التونسيين إلى سوريا. ونتج عنها أيضا طرح إعادة العلاقات مع الدولة السورية للنقاش في البرلمان وتشكّلت بعدها وفود برلمانية وإعلامية لزيارة سوريا والاطلاع على الوضع مباشرة.
لقد كانت مبادرة الاتحاد تعبيرا صادقا عن إرادة شعبية، إذ تربط التونسيين والسوريين أواصر علاقات تاريخية وحضارية واجتماعية ضاربة جذورها في الماضي البعيد، علاوة على وجود جالية تونسية كبيرة ومثلها جالية سورية في تونس انقطعت صلاتهم بسبب القطع الفجئي للعلاقات الديبلوماسية مع الطرف السوري، فناهض التونسيات والتونسيون منذ الأيّام الأولى القرار المتسرّع بقطع العلاقات مع الدولة السورية واحتجّوا عبر قواهم الحيّة السياسية والمدنيّة ضدّ عقد ما يسمّى بـ”مؤتمر أصدقاء سوريا ” على الأراضي التونسية ولم يتخلّف العديد من التونسيين ومنهم النقابيون عن التظاهر ضدّ الحرب المدمّرة في سوريا واعتبارها حربا دولية بالوكالة لا حربا أهلية بدليل اشتراك أكثر من خمسين جنسية من المجنّدين في صفوف المعارضة السورية المسلّحة التي تبيّن للعالم الدور الإرهابي الذي كانت تلعب، إضافة إلى تورّط تحالف دولي وإقليمي واسع في هذا التدمير الممنهج لسوريا.
ولقد مكّنت زيارة الوفد النقابي التونسي من كشف حجم الخراب الذي حلّ بسوريا وبأيادي أجنبية بالأساس وبشاعة ما حلّ بأعرق بلدان الحضارة الإنسانية، كما وقف الوفد على صمود وتماسك الشعب السوري وحبه للحياة وحرصه على وحدته وتوقه الى التقدم والديمقراطية على أسس سلميّة.
وعبّرت زيارة وفد الاتحاد إلى سوريا أيضا عن إرادة عمّالية ونقابية سطّرها المؤتمر الثالث والعشرون للاتحاد في اللاّئحة السياسية (التي كانت وليدة نقاش استمرّ أشهرا للإعداد للمؤتمر) بدعوته الصريحة إلى الانتصار إلى الشعب السوري والضغط من أجل إعادة العلاقة الديبلوماسية التونسية مع الدولة السورية وأوصى بأن يلعب الاتحاد دورا ضاغطا وإيجابيا في ذلك بكسر الحصار على سوريا والتنسيق الثنائي مع قيادة الحركة النقابية السورية.
لقد أصبح الوعي بالخطر الإرهابي في سوريا وعيا دوليا ولكنّه جاء متأخّرا لاعتبارات كثيرة منها:
أوّلا: نجاح الجيش السوري ضمن تحالف دولي آخر في تقهقر الإرهابيين وتحطيم مشروع ” دولتهم ” الدّاعشية.
ثانيا: انتشار الإرهابيين وتغلغلهم في مناطق عديدة داخل سوريا وخارجها بما في ذلك الدول الأوربية وتبيّنت قدرتهم على التدمير والتفجير في أي لحظة وفي أي مكان من العالم بما في ذلك الدول المشاركة مباشرة في الحرب.
ثالثا: بلوغ حجم الدمار والقتل والتشريد في سوريا حدًّا فاق كلّ التوقّعات، حتّى أصبحت أغلب الدول الأوروبية عاجزة عن استيعاب المهجّرين ومنع اختراق الإرهابيين صفوف المهجّرين واستغلال هذا الوضع لإثارة الرعب في بلدان الاستقبال.
رابعا: تعقُّد الملفّ السوري بتورّط عدّة دول وخاصّة بعض دول الجوار في الحرب علاوة على المنحى العرقي والديني والمذهبي الذي اتّخذته مجريات الأحداث كلّما تقدّمت الحرب في الزمن.
إنّ الشعب السوري شعب مسالم ينتظر تدخّلا عاجلا من القوى الديمقراطية في العالم ومن الحركة النقابية التقدّمية لوقف هذه الحرب ومساعدته على مواصلة مقاومة الإرهاب وإعادة إعمار بلاده وبنائها.
إنّ رسالة الاتحاد من هذه المبادرة إلى شرفاء العالم، تتمثّل في الدعوة الملحّة لوقف الحرب المدمّرة في سوريا بوقف إمداد الإرهابيين بالمال والسلاح والمجنّدين والعمل على إنقاذ المهجّرين من التشرُّد وما يرتبط به من مخاطر، وترك الشعب السوري الواعي والناضج والمثقّف حرًّا يختار نظام حكمه وحكّامه. في إطار احترام حقوق الإنسان.
إنّ من أهمّ دعائم السلام في العالم هو ترسيخ الاستقرار في المنطقة العربية ولن يتسنى ذلك إلاّ بحلّ عادل للقضية الفلسطينية عبر إرساء دولة مستقلّة وعاصمتها القدس الشريف وهو الحلّ الوحيد والذي يُراد له أن يُقبر من خلال الاستعمار الاستيطاني الإسرائيلي في فلسطين وما يتصل به من قمع وتقتيل وسجن وتشريد لأكثر شعوب العصر التي عانت من الاضطهاد وهو الشعب الفلسطيني، وهو حلّ لا يراد له أن يرى النور بهذه الحروب المدمّرة التي تُشعل بالوكالة في المنطقة العربية وخاصة في سوريا والعراق واليمن وليبيا.
إنّ من أولويات الحركة النقابية العالمية اليوم، إلى جانب النضال على الجبهة الاجتماعية والاقتصادية والحقوقية، هي النضال من أجل السلام والوقوف ضدّ الحروب ومناهضة الاستعمار والمساهمة الفعّالة في محاربة الإرهاب والدفاع عن حقّ الشعوب في تقرير مصيرها. ولن يهنأ العالم بالاستقرار ولا بالسلام ولا حتّى بالأمن إذا لم تتوفّر حلول عادلة وعاجلة للقضية الفلسطينية وما حفّ بها من ملفّات وفي مقدّمتها الملفّ السوري.
وإنّ إنهاء التدخّل الخارجي ومقاومة الإرهاب في سوريا هما أولوية مطلقة، وهو ما سيمكّن الشعب السوري من الخروج من الحرب معافى من جراحه ومن تقرير مصيره بنفسه.
لا يفوتنا ونحن ندعو العالم الديمقراطي والنقابي إلى وقف التدمير في سوريا وتقتيل شعبها وتشريده وإلى معالجة وضعية اللاجئين، أن نلفت أنظاره أيضا إلى ما يعانيه اليمنيون والليبيون والفلسطينيون والعراقيون من دمار وتقتيل وإبادة تحت ويلات حرب المحاور الإقليمية والدولية.
وكما يجب تجاوز الصمت الذي حدث مع الحرب في سوريا وقبلها العراق، فيجب الإسراع بالتعبئة الواسعة للمجتمع المدني والنقابي من أجل وقف الحرب في اليمن وليبيا، وكذلك وقف الانتهاكات الصهيونية في فلسطين.
إنّنا ندرك المخاطر التي تتهدّد العالم بسبب الظاهرة الإرهابية، ونعبّر عن تضامننا المطلق مع شعوب العالم التي تضرّرت بالعمليّات الإرهابية ونرى أنّ مقاومة الإرهاب يجب أن تكون مقاومة عالمية باعتبار أنّ هذه الظاهرة عالمية.
هذه مبادئ الاتحاد والتي يدرك أنّه يتقاسمها مع اغلب التيارات النقابية في العالم وخاصة مع الاتحاد الدولي للنقابات والتي يأمل أن تتجنّد من أجلها الحركة النقابية العالمية.
الأمين العام للاتحاد العام التونسي للشغل
نورالدين الطبوبي