
كلمة الأخ نور الدين الطبوبي الأمين العام للاتحاد العام التونسي للشغل في الدورة 47 لمؤتمر العمل العربي القاهرة، 14-21 أفريل/نيسان 2019
السيد رئيس المؤتمر،
السيد المدير العام،
حضرات السيدات والسادة أعضاء المؤتمر،
أودّ بداية أن أتوجّه بجزيل الشكر والامتنان للسيد المدير العام فايز علي المطيري ولفريقه المُتعاون لما يبذلونه من عمل جادّ ومن جُهد دَؤوب من أجل تحقيق أهداف وبرامج منظّمة العمل العربية. كما أشكر لهم وللمنظّمة حسن اختيارهم لموضوع “علاقات العمل ومتطلبات التنمية المستدامة” كردّ على ما تشهده منطقتنا العربية من تراجع لسلطان القانون وتغوّل للاقتصاد الموازي وللقطاع غير المنظّم المُغيّب كلّ منهما للحماية والعدالة الاجتماعية، والسالب كلّ منهما للكرامة وللحقوق الاجتماعية والمفسد كلّ منهما لعلاقات العمل ولغايات الحوار الاجتماعي.
السيدات والسادة،
اسمحوا لي في بداية كلمتي بشأن موضوع مؤتمرنا حول العلاقات الشغلية ومتطّلبات التنمية المستدامة أن أعود بكم إلى منتصف القرن الماضي وتحديدا إلى سنة 1944 تاريخ تبنّي شُركاء الإنتاج الثلاثة في إطار منظّمة العمل الدولية، لإعلان “فيلادلفيا” الشهير، لأذكّركم بما جاء فيه من أنّ العمل ليس سلعة، وأنّ حرية التعبير والاجتماع والتنظيم أساسية لأيّ تقدّم مستدام، وأنّ الفقر في أي مكان، يشكل خطرا على الازدهار في سائر أنحاء العالم.
أَرَدْتُ التذكير بذلك لأنّ المتمعِّنَ في واقِعِنا العربي اليوم يكتشف دون عناء أنّه أقرب إلى توصيف إعلان “فيلادلفيا” لسنة 1944. ذلك أنّ مُخْرَجَات النماذج التنموية في جميع أقطارنا أثبتت فشلها وقصورها على خلق القيمة المضافة وفي دفع المسارات التنموية نحو ما يلبّي حاجيات وانتظارات شعوبها بل خلّفت الاحتقان لديها وأفسدت العلاقات بين الدولة والمجتمع وفيما بين مكوّنات المجتمع ذاته ليأخذ هذا التوتّر في العلاقات أشكالا يطغى عليها الصراع والتصادم العنيف.
السيدات والسادة،
دعني أقول بصراحة أنّ الحديث عن علاقات العمل ومتطلّبات التنمية المستدامة تُحيلنا مباشرة إلى الترابط الجدلي بين مفهومي العمل اللائق واستدامة المؤسسة واللذان لا يزالُ الاتفاق بشأنهما لم يبلغ حدّ القاسم المشترك.
فالعمل اللائق من منظور منظّمة العمل الدولية، ولا أَخَاله يختلف في منظور منظّمة العمل العربية، هو العمل المنتج للخيرات والخدمات والذي يوفّر الدخل الكافي للعامل ولعائلته ويضمن الصحة والسلامة المهنية، ويؤمّنه ضدّ العجز والمرض والشيخوخة، ويوفّر له الحرية الفردية والجماعية والتعليم والتكوين مدى الحياة. ويفتح أمامه الآفاق الرحبة لتحسين مَسْلكه المهني.
والعمل اللائق هو أيضا مسؤولية فردية جماعية ووطنية بل وإنسانية، لذلك يجب أن يكون مقيّدا بجملة من الواجبات كأن يكون خال من الغشّ، ملتزما بمعايير الجودة وبقيم الأمانة والإخلاص والتفاني عند أدائه. يُمَارَس بحرية وتلقائية في كنف الانضباط لمقتضيات القانون وللتراتيب المنظّمة له.
ونحن في الاتحاد العام التونسي للشغل نعتقد أنّه من دون الإجماع حول هذا المفهوم ومن دون استبطانه كمرجع أساسي لبناء تصوّر مشترك لمستقبل التشغيل وللنموذج التنموي عموما سوف يكون من العبث الخروج من نفق الهشاشة والارتجال وسوف يكون من العسير الاستجابة لمقتضيات العمل اللائق والتنمية المستدامة المتعارف عليها دوليا.
إن الغاية من إصلاح وترشيد علاقات العمل بفضل العمل اللائق وإكساب المؤسسة مقوّمات الاستدامة هو الردّ العاجل والقوي على أزمة البطالة الضاربة في بلادنا وتفشي أشكال التشغيل الهش المُهِينَة وتغوّل القطاع غير المنظّم وتفاقم الاختلالات بين الجهات والفئات، وهي عِلَلٌ مزمنة ساهمت جميعها في إفساد مسارنا التنموي وفي إضعاف وتفكك الروابط الاجتماعية داخل مجتمعنا وفي اهتزاز الثقة بين الدولة والمجتمع وفيما بين مكونات المجتمع.
السيدات والسادة،
إنّنا نعيد ونؤكّد أنّ المنوال التنموي الحالي لم يعد قادرا على جلب الاستثمار الخاص ولا على توفير العمل اللائق وذلك نظرا لضعف البنية التحتية وتفكّك النسيج الاقتصادي والافتقار إلى سياسة صناعية متكاملة تراعي إمكانيات وطاقات مختلف الجهات والقطاعات.هذا علاوة على تعمّد إهمال تأهيل القطاع الفلاحي والتردّد في استكشاف وتطوير بعض القطاعات الواعدة الأخرى كالاقتصاد الأخضر والاقتصاد التضامني والاجتماعي.
السيدات والسادة،
إنّ الاتحاد العام التونسي للشغل ليس منظّمة معادية للربح أو مستنكرة للسعي إلى تحقيقه في المُطلق، إن ما يَأْبَاهُ ويستنكره الاتحاد أن يكون الربح متأتّيا من التداول المالي بدون زيادة في الخيرات وكذلك بدون توسيع الاقتصاد حتّى يكون قادرا على استيعاب طالبي الشغل.
إنّ الدولة بوصفها كيانا أخلاقيا وعقلانيا وتعاقدا اجتماعيا رضائيا، هي مِلْكٌ مُشَاعٌ بين جميع فئات المجتمع، فلا تكون حِكْرًا على فئة دون أخرى ولا منحازة لفريق دون آخر ولا لجهة من جهات الوطن دون سائر الجهات. فهي في رأي الاتحاد وسيط مُنصِف دائم، بين العمل والمال. وخطر العولمة على مجتمعنا الناشئ تحديدا أنّها تسعى إلى إفساد التوازن بين ثالوث المال والعمل والسلطة بدفع الدولة إلى التراجع عن حيادها وعن دورها التعديلي وإلى تمتين القوة لصالح المال فتصبح الدولة كيانا “رَخْوًا” عاجزا عن حماية المجتمع من التصدّع وعن تحصين التوازن من الاختلال.
إنّ الاتحاد يرى أنّ لا نجاة من هذه الجاهلية إلاّ بالتحالف المتين بين قوى الإصلاح والتقدّم. وسوف يبقى مدافعا وداعيا للوقوف جبهة واحدة قصد إعادة تأسيس العدل الاجتماعي بين شرائح المجتمع وبينها وبين الدولة على أساس معقوليّة جديدة مُنصفة للنشاط الاقتصادي، يعود المال بموجبها إلى منزلة الوسيلة من بين وسائل التعامل بين الناس، ويتحدّد التوازن بين فئات المجتمع، في ظلّ دولة موفورة الصلاحيات، تسخّر جهدها لحفظ التضامن والتعاون وترشيد العلاقة بينها وبين مكونات المجتمع المدني على قاعدة الإقرار المشترك بحقّ المساءلة وبعُلْوِيّة القانون وبحرية الرأي.
إنّ مستقبل العمل في بلادنا يواجه تحديات كثيرة ومتعدّدة منها ما هو مرتبط بتعاظم الاقتصاد الغير المنظّم حيث يخضع العاملون فيه إلى شتّى أنواع الاستغلال والحرمان ويفتقرون إلى أدنى شروط الحماية والصحة والسلامة، ومنها ما هو مرتبط بتطوّر الاقتصاد الرقمي الذي بدأ يكتسح العالم في أكثر من مكان، وبات من المؤكّد أن يكون له تأثيرات عميقة على نُظُم الإنتاج والإدارة وعلاقات العمل، تُحتّم جميعها مراجعات جذرية ومُعمِّقة للمفاهيم والتصوّرات المألوفة حول العمل والعلاقات الشغلية ولمناهج التعليم والتكوين المهني ولمضامين الحوار الاجتماعي ودور الشركاء الاجتماعيين.
ووفق منظورنا هذا فإنّنا نرى أن ضرب الحق النقابي المكرّس في أكثر من بلد عربي هو في الحقيقة الأمر ضرب لحرية التعبير والتنظّم وتقويض لِأُسُسِ العملية الديمقراطية ولمبدئ الحوار الاجتماعي وارتهان لديمومة التنمية.
السيدات والسادة،
أختم وأقول أنّ أي إصلاح وأيّ تقدّم في توفير متطلبات التنمية المستدامة سوف يبقى رهين قدرتنا وإرادتنا على استعادة أمننا والتعجيل باستكمال الإصلاحات السياسية في أوطاننا وتنفيذ ومتابعة ما يتّخذ من قرارات وإجراءات بما يعيد إلى الدولة هيبتها وبما يجعلها في تصالح مع نُخبها السياسية ومع مكونات مجتمعها المدني ومع مواطنيها على وجه العموم وبما يُضفي على الحياة العامة مناخا من الحرية والديمقراطية على اعتبار أهمية ذلك في إنجاح الإصلاحات. ولكن سوف يبقى أيضا رهين تضافر جهودنا مع المجهود الدولي لمقاومة الإرهاب المعوْلم من أجل استئصال بؤره وتجفيف منابعه في كلّ أنحاء العالم وفي مقدّمتها حلّ القضية الفلسطينية وتمكين الشعب الفلسطيني من حقّ تقرير مصيره على أرضه وبناء دولته المستقلة وعاصمتها القدس الشريف.