كلمة الأخ نور الدين الطبوبي الأمين العام للاتحاد العام التونسي للشغل في المنتدى البرلماني الدولي للعدالة الاجتماعية
في نسخته الثانية حول “مأسسة الحوار الاجتماعي مدخل أساسي للتنمية المستدامة والعدالة الاجتماعية”
الدار البيضاء، في 20 فيفري 2017
السيد رئيس مجلس المستشارين،
السيد رئيس الحكومة المغربية،
السيد ممثّل الأمين العام للأمم المتحدة،
السيد ممثّل الكنفدرالية الدولية النقابية،
السيد ممثّل المنظمة الجهوية الإفريقية بالكنفدرالية الدولية للنقابات CSI Afrique،
السيد ممثّل المدير العام لمنظمة العمل الدولية،
السيد ممثّل المدير العام لمنظمة العمل العربية،
الرفيق مصطفى التليلي ممثّل الرفيقة شارون بيرو الأمينة العامة للكنفدرالية النقابية الدولية،
الرفاق ممثلي العمال والنقابات في مجلس المستشارين
السيد ممثّل المنظمة العالمية لأصحاب العمل،
السيدات والسادة النوّاب والمستشارون،
السيدات والسادة الكرام،
إنّه لشرف عظيم لي وللوفد الذي يرافقني، أن نكون إلى جانبكم اليوم للمشاركة في فعاليات النسخة الثانية للمنتدى البرلماني الدولي للعدالة الاجتماعية، الذي ينظّمه مشكورا مجلس المستشارين المغربي تحت شعار “مأسسة الحوار الاجتماعي مدخل أساسي للتنمية المستدامة والعدالة الاجتماعية“، ويحضره أبرز قادة الهيئات الدولية المعنية بالشؤون الاقتصادية والاجتماعية والبيئة والحقوقية إلى جانب الكنفدرالية الدولية للنقابات والمنظّمة العالمية لأصحاب العمل.
ويسعدني أكثر، ورفاقي في الاتحاد العام التونسي للشغل، أن أدعى من أشقائنا في المغرب لنساهم معهم في بلورة مسار، نعتقد في صحّته ومتانته وأن نحلّ في مغرب يشهد نهضة تشريعية وازدهارا اقتصاديا ويرنو إلى أن يواكبه رفاه اجتماعي أولى مظاهره تنمية مستدامة وشغل قارّ وعمل لائق وحوار اجتماعي متوازن عقلاني. فهنيئا لكم هذه المبادرة وهنيئا لنقابيي المغرب الشقيق قوّة الحجّة وأهمية الموقع الذي يتبوّؤونه في مجلس المستشارين، هذه التجربة الرائدة، لتكون صوتا للشغالين ولعموم الشعب.
حضرات السيدات والسادة،
لقد جاءت ثورة الحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية في تونس تعبيرا صارخا لفشل النموذج التنموي الذي اعتمد منذ أواسط ثمانينات القرن الماضي تحت ضغط قوى المال الرأسمالية في ظلّ غياب تامّ للشفافية والمساءلة والديمقراطية التشاركية. وقد كان من نتائج هذا النموذج الهجين تدمير النسيج الاقتصادي وتفكيكه، وتردّي الأوضاع المعيشيّة، وتعميق الهوّة بين شرائح المجتمع وبين الجهات والقطاعات، وهي عوامل ساهمت جميعها في ارتفاع البطالة واستشراء العمل الهشّ وتعاظم حجم القطاع غير المنظّم المغيّب للحماية والسالب للحرية والكرامة والمكرّس لتراجع سلطان القانون ولهيبة الدولة.
جاءت الثورة مبشّرة بمشروع مجتمعي جديد تحتلّ فيه الحقوق الاقتصادية والاجتماعية الأولوية المطلقة، والتي من دونها ينتفي أيّ معنى للاستقرار السياسي وللإقلاع الاقتصادي. جاءت مؤكّدة لما كان يردّده ملهمنا وزعيمنا الشهيد خالد الذكر فرحات حشّاد، مؤسّس الاتحاد العام التونسي للشغل من أنّ، والقول له: “أيّ قرار سياسي وإنّ أيّ نشاط اقتصادي لا بدّ أن يخضعا للاستحقاق الاجتماعي وأن يكونا في خدمته. وغير ذلك فَهُمَا عديما القيمة، بل قد يتحوّلان في حالة تغوّلهما أو تغوّل أحدهما، بوازع الربح أو بدافع التسلّط والاستبداد، إلى عوامل مدمّرة للقيم الأخلاقية ولمبادئ حقوق الإنسان وللكرامة البشرية”. انتهى قول حشّاد. وسيرا على هذا النهج انتصرنا لثورة الحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية، واحتضنّاها ونجحنا في رعايتها رفقة منظّمات عريقة من المجتمع المدني: الاتحاد التونسي للصناعة والتجارة والصناعات التقليدية والهيئة الوطنية للمحامين التونسيين والرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان في إطار الرباعي الراعي للحوار الوطني الذي كرّمه العالم بنيل جائزة نوبل للسلام لسنة 2015.
حضرات السيدات والسادة،
لقد كان لا بدّ من العمل في اتّجاه القطع مع نظام الاستبداد والحيف الاجتماعي، والتوجّه نحو تأسيس منوال سياسي واقتصادي جديد يقوم على التوازن والترابط الجدلي بين التنمية الاقتصادية الدامجة والعادلة والضامنة للحماية وللكرامة البشرية من ناحية والحرية والتعدّدية السياسية من ناحية أخرى. فسعينا، كشريك اجتماعي، إلى الإسهام مساهمة فاعلة في صياغة ملامح النظام السياسي والاقتصادي والاجتماعي الذي نطمح إليه. وشدّدنا من خلال مشروع تقدّمنا به إلى المجلس الوطني التأسيسي على أن يرتكز الدستور الجديد للبلاد التونسية في تصوّره لمنظومة الحقوق والحريات على مبدإ شموليتها وعدم قابليتها للتجزئة، وأكّدنا على عدم اعتبار هذه الحقوق مجرّد نوايا يسترشد بها المشرّع، بل يجب إحاطتها بضمانات دستورية تؤمّن فعليتها وتجعل منها حقّا يمكن الاحتجاج به لدى السلط العمومية. وهذا ما حصل فعلا، حيث كانت الحقوق الاقتصادية والاجتماعية وفي مقدّمتها الحقّ النقابي وحقّ الإضراب، حاضرة بقوّة فيه.
حضرات السيدات والسادة،
على صعيد آخر، وبرعاية من منظمة العمل الدولية، ومديرها العام شخصيّا، باشرنا مع شركائنا الاجتماعيين مهمّة وضع الشروط الكفيلة بإرساء علاقات شغلية من نوع جديد متناغمة مع أهداف ثورتنا. وقد توفّقنا بعد مداولات ومشاورات دامت أكثر من ثمانية أشهر إلى صياغة مشروع عقد اجتماعي وقّعنا عليه تحت قبّة المجلس التأسيسي يوم 14 جانفي 2013 بمناسبة إحياء الذكرى الثانية للثورة ومنذ ذلك الحين باشرنا في إطار لجان ثلاثية التمثيل مهمة تفعيل بنود هذا العقد والتي ترمي:
أوّلا: إلى إرساء منوال جديد للتنمية يضع الأسس الحقيقية لتنمية شاملة ودامجة ومستدامة.
ثانيا: وضع سياسات نشيطة للتشغيل والتكوين المهني تساعد على النهوض باقتصاد متنوع الاختصاصات موجّه لخلق القيمة المضافة العالية، قادر على تحقيق أعلى درجات النمو الممكنة، وعلى استيعاب أكثر ما يمكن من حاملي الشهائد العليا، وتوفير العمل اللائق.
ثالثا: النهوض بالعلاقات الشغلية بفضل الحوار الاجتماعي بما يساعد على الانتقال إلى واقع جديد قائم على منطق التوافق والتعاقد والمقاربة التشاركية.
رابعا: أحكام التصرّف في أنظمة الحماية الاجتماعية بما يضمن لها الاستمرارية في إسداء الخدمات لكافة شرائح الشعب.
خامسا وأخيرا: البحث في سبل تنظيم وإدارة الحوار الاجتماعي وضمان استمراره وانتظامه عبر العمل على مأسسته.
ولتفعيل المقتضيات المضمّنة في العقد الاجتماعي بخصوص مأسسة الحوار الاجتماعي تمّ التداول والنقاش والاتفاق حول مشروع قانون لإحداث مجلس وطني للحوار الاجتماعي، أحيل منذ سنة 2015، على مجلس نواب الشعب للمصادقة. ورغم الوعود المتكرّرة لاستصدار هذا القانون فإنّنا لا زلنا ننتظر صدوره إلى اليوم، حتى يؤدّي وظيفته المجتمعية المنتظرة منه والمتمثلة خاصّة في تفعيل العقد الاجتماعي أوّلا ووضع الأطر والآليات الكفيلة بتحويل الحوار الاجتماعي إلى ثقافة مشتركة وإلى سلوك يومي متداول بين الجميع ثانيا.
حضرات السيدات والسادة،
إنّنا، وبقدر افتخارنا بثراء التجربة التونسية في مجال الحوار الاجتماعي، فإن تفعيل العقد الاجتماعي، الذي أبرمناه، يقتضي في نظرنا إلى جانب الحاجة المتأكدة لمأسسة الحوار الاجتماعي من حيث تنظيمه وإدارته واستمراريته وانتظامه داخل المؤسسة على المستوى المحلي والجهوي والقطاعي والوطني، يقتضي تجديد الحوار الاجتماعي وتطوير مضامينه بما يعزز الانتقال الديمقراطي في بلادنا وبما يكرّس الملاءمة بين الديمقراطية السياسية والديمقراطية الاجتماعية.
فما زلنا في تونس، رغم كلّ المكاسب التي راكمناها، نفتقر إلى إطار قانوني ينظّم بدقّة مسار المفاوضات الجماعية ودوريّتها وإجراءاتها والمواعيد التي يتعيّن التقيّد بها قبل وأثناء وبعد التفاوض. وما زلنا نفتقر إلى إطار تشريعي خاص بالتمثيل النقابي للعمّال داخل أماكن العمل. وما زلنا نفتقر إلى إطار تشريعي ينظّم بدقّة تمثيلية المنظّمات النقابية لأهمية هذه المسألة في العمل النقابي حتّى لا تتحوّل إلى نوع من الانتصاب الفوضوي في المشهد النقابي يضرّ بمنظومة العلاقات الشغلية.
إنّ تدارك هذه النقائص من شأنه أن يضفي على المشهد السياسي الشفافية المطلوبة ويعزّز الثقة في جدوى الحوار وفي نبل مقاصده. فتفعيل العقد الاجتماعي من شأنه أن يساعد على إبراز المصالح الاقتصادية والاجتماعية لمختلف الأطراف قصد تمكين هؤلاء من البحث عن تسوية تُصالح بين استحقاقات التنافسية، ومقتضيات العمل اللائق، والمسؤولية المجتمعية للمؤسّسة ولأطرافها المعنية الداخلية والخارجية على حدّ سواء.
وممّا لا شكّ فيه أنّ النهوض بالحوار الاجتماعي في مستوى المؤسّسة أصبح يمثّل اليوم محورا استراتيجيّا لتجديد الحوار الاجتماعي وتفعيله. وما من شكّ أنّ نجاح هذا النمط من الحوار يقتضي توفّر بعض الشروط: من ذلك توفّر أنشطة اقتصادية ذات قيمة مضافة عالية، ووجود مسؤولين نقابيين من الجانبين يمارسون مهمّتهم وفق مقتضيات معايير العمل الدولية، علاوة على تحلّي المؤسّسة بالشفافية من خلال التزامها بتقديم التوضيحات والمعلومات الضرورية للنقابات حول متطلّبات الحرفاء وحول ضغوطات المنافسة الدولية وهو ما من شأنه أن يخلق مناخا من الثقة وأن يجعل من الحوار الاجتماعي وسيلة لمواجهة المنافسة العالمية والدفاع عن العمل اللائق.
وما من شكّ أيضا أنّ إدماج المجالات الترابية في ديناميكية الحوار الاجتماعي بات محورا استراتيجيّا للنموّ الاقتصادي الدامج ولقيمة الديمقراطية المحلية، باعتبارها المدرسة الأولى للتنشئة على السلوك الديمقراطي. فالحوار الاجتماعي المحلّي يساعد على معالجة مسائل قد لا يشملها التفاوض الجماعي، كالتشاور حول التهيئة الترابية والسياسات العمومية التي تدخل ضمن صلاحيات الجماعات المحلية. وهكذا يلتقي الحوار الاجتماعي والحوار المدني على المستوى المحلّي لتأمين التماسك الاقتصادي والسياسات القطاعية للتنمية.
هذه بعض الأفكار التي ارتأيت الإفصاح عنها في مثل هذه المناسبة التي أرجو أن تكون محفّزة حقّا للنهوض بالحوار الاجتماعي وتحديثه حتّى يكون أداة لإحياء المسألة الاجتماعية والتأسيس لمفهوم مؤسّسة المواطنة، وإنّي على يقين أنّ الطريق طويلة وأنّ الصعوبات جمّة، ولكن عزمنا وعزم النقابيين في كلّ مكان سيذلّل هذه الصعوبات وسيقنع من مازال متردّدا أو غير مهتمّ بالحوار الاجتماعي بأنّ هذا هو سبيلنا إلى الدفع إلى مجتمع متوازن متقدّم تسوده العدالة الاجتماعية.
وفّقنا ووفّقتم في مسعى مأسسة الحوار الاجتماعي، والسلام عليكم.