كلمة الأخ نورالدين الطبوبي الأمين العام للاتحاد العام التونسي للشغل في الملقى الدولي للعمل
كلمة الأخ نورالدين الطبوبي
الأمين العام للاتحاد العام التونسي للشغل
في الملقى الدولي للعمل الملتئم على هامش
مؤتمر النقابات الأمريكية AFL-CIO
الرفيقات والرفاق،
السيدات والسادة،
إنّه لشرف عظيم لي أن أحضر معكم هذا الملتقى الدولي حول دور النقابات في إنجاح مسارات الانتقال الديمقراطي الذي يلتئم بمبادرة من المركز الدولي للعمل على هامش مؤتمر النقابات الأمريكية AFL-CIO.
ما أريد التوقف عنده هو التمشّي الذي انتهجناه في إدارة المسار الانتقالي والذي ميّز التجربة التونسية، على الأقلّ إلى حدّ الآن، عن باقي التجارب الأخرى في بلدان الربيع العربي.
فبعد اندلاع الانتفاضة الشعبية في 17 ديسمبر 2010، والتي انفجرت دون تدبير مسبق ولا قيادة سياسية تذكر، وبعد النجاح في التخلّص من أعتى رموز الأنظمة الاستبدادية الفاسدة في المنطقة العربية يوم 14 جانفي 2014، وأمام التصحّر السياسي الذي خلّفه الاجماع الشعبي القاضي بحلّ الحزب الحاكم، التجمّع الدستوري الديمقراطي، والهيئات الترابية والمهنية التابعة له، فإنّ تونس لا تزال تعيش منذ قرابة سبع سنوات مخاضا عسيرا على درب استكمال مسارها الانتقتالي.
لكن الثابت، وبشهادة الكثيرين، أنّ هذا المخاض، على عسره، أنجب فاعلا جديدا، أثار الانتباه على أكثر من صعيد، تمثّل فيما يطلق عليه اصطلاحا إسم المجتمع المدني بمختلف مكوّناته الحقوقية والنقابية والشبابية والنسوية والفنية والثقافية والبيئية والتنموية… فاعل جعل من شعار الحرية والمدنية والكرامة والعدالة الاجتماعية مقوّما رئيسيا لهويّته، فَسَمَا وتميّز بأدائه عن باقي الكيانات التقليدية.
والثابت أيضا وبشهادة الكثيرين، أنّ هذا الفاعل الجديد ما كان ليبرز كقوّة بذاتها لولا جاهزية الاتحاد العام التونسي للشغل بتأطيره ورعايته للمسار الانتقالي، وهي جاهزية تعود بالأساس إلى رصيد الثقة التي راكمها منذ بدايات القرن الماضي أثناء معركة التحرير التي قدّم خلالها الكثير من التضحيات لعلّ أهمّها اغتيال مؤسّسه فرحات حشّاد يوم 5 ديسمبر 1952، والكثير من المبادرات والمساهمات لعلّ أبرزها البرنامج الاقتصادي والاجتماعي لفترة ما بعد الاستقلال. ثم بعد الاستقلال بانتصاره لقضايا الحرية والديمقراطية وباحتضانه لمختلف الأطياف السياسية الممنوعة والمقموعة والملاحقة والمعتقلة ولجميع التعبيرات الحقوقية والفكرية المبدعة، وكذلك لإنتشاره الجغرافي الواسع وتمرّس مناضليه وانحيازهم منذ البداية إلى الجماهير المنتفضة يوم 17 ديسمبر 2010 وما بعده، وتبنيهم لشعاراتها ولمطالبها.
الرفيقات والرفاق،
السيدات والسادة،
أريد أن أشدّد على دور “الحاضن” و”الراعي” الذي لعبه الاتحاد العام التونسي للشغل على امتداد الفترة الانتقالية، لما تحمله هذه الكلمة من دلالات في علاقة بتاريخ منظمتنا العمّالية ومرجعيّتها الفكرية من ناحية وبهويّة مكوّنات المشهد السياسي المتواجدة على الساحة من ناحية أخرى.
لقد وضع الاتحاد لنفسه منذ البداية مسافة تجاه الحكم، حيث رفض المشاركة في أيّ من الحكومات المتعاقبة، لكنّه أصرّ في ذات الوقت على التدخل في الشأن السياسي والاقتصادي لتأثيرهما المباشر على الواقع الاجتماعي ولاقتناعه بأنّه لا قيمة ولا جدوى لأيّ سلوك سياسي ولا لأيّ نشاط اقتصادي ما لم يوجّه لخدمة ولرفاه ولرقيّ المواطن والمجتمع.
اقتنع الاتحاد منذ البداية بفكرة حماية أهداف الثورة، فانخرط في هذا المجهود وسعى إلى جانب بعض الهيئات المدنية الأخرى التي تتمتّع بهامش كبير من الاستقلالية كالهيئة الوطنية للمحامين وجمعية القضاة التونسيين والرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان إلى تأطير التحركات الداعية لها والتنسيق فيما بين الفاعلين فيها من أحزاب سياسية ومكوّنات المجتمع المدني والمعتصمين المرابطين أمام قصر الحكومة بالقصبة والذين منحوا جميعهم الاتحاد العام التونسي للشغل ثقتهم للتوسّط من أجل مدّ جسور الحوار والتواصل فيما بينهم وبين الحكومات الانتقالية المتعاقبة. وقد أثمرت هذه الوساطة فعلا إطارا توافقيّا تمثّل في “الهيئة العليا لحماية أهداف الثورة والإصلاح السياسي والانتقال الديمقراطي” والتي تولّت الإعداد لانتخابات المجلس التأسيسي التي تمّت يوم 23 أكتوبر 2011 ومنحت حركة النهضة الإسلامية أغلبية الأصوات ورشّحتها لتولّي الحكم الانتقالي في البلاد.
لكنّ المشهد السياسي شبه التوافقي الذي عرفته البلاد قبل انتخابات المجلس الوطني التأسيسي، ترك المكان إلى واقع جديد طغت فيه ممارسات واخلالات خطيرة شجّعت على الاستقطاب السياسي، وولّدت الكثير من الحيرة والتساؤل بشأن مستقبل منظومة الحكم في البلاد، فكانت النتيجة احتدام حدّة التجاذبات بين الفرقاء السياسيين إلى حدّ الجفوة والعداء، وبرزت مؤشّرات الاحتقان والقطيعة داخل المجتمع، فعمّ التسيّب والانفلات الذي شجّع على التطاول على هيبة الدولة وعلى تغوّل عصابات التهريب، ونشطاء التجارة الموازية، ومحترفي الإرهاب والجريمة، ممّا أودى بحياة قيادِيَيْنِ سياسِيَيْن بارِزَيْن، شكري بلعيد والحاج محمّد البراهمي، والعديد من قوات الأمن والجيش، وأصبح المواطن في حيرة من أمره جراء غياب الأمن ولهيب الأسعار واستشراء الفوضى على أكثر من صعيد.
على خلفية هذا الواقع المتوتر والمشحون، جاءت مبادرة الاتحاد العام التونسي للشغل متمثّلة في دعوة جميع الفرقاء السياسيين، حكومة مؤقّتة، وأحزاب، وجمعيات ومنظمات، إلى ضرورة عقد مؤتمر وطني جامع من أجل التوصّل إلى توافقات كبرى تؤمّن إدارة ما تبقى من المرحلة الانتقالية، وهو ما حصل فعلا يوم 16 أكتوبر 2013 حيث انعقد المؤتمر الوطني للحوار تحت رعاية أربع منظمات وطنية تعدّ من أبرز مكونات المجتمع المدني وأكثرها تأثيرا، الاتحاد العام التونسي للشغل، والاتحاد التونسي للصناعة والتجارة والصناعات التقليدية، والرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان، والهيئة والوطنية للمحامين، والتي ستُعرف فيما بعد بالرباعي الراعي للحوار. وقد أفضى نهج الحوار الذي نجحنا في إرسائه إلى تشكيل حكومة كفاءات مؤقّتة وصياغة الدستور الجديد والمصادقة عليه بنسبة توافق عالية، وتمّ انتخاب الهيئة العليا المستقلة للانتخابات، فالقانون الانتخابي، ثمّ إجراء الانتخابات الرئاسية والتشريعية التي اتّسمت بالشفافية والديمقراطية، وأفرزت مجلسا نيابيا جديدا ورئيس جمهورية جديد.
الرفيقات والرفاق،
السيدات والسادة،
بالرغم ممّا تحقّق من إصلاحات سياسية ودستورية، فقد وضعت التطوّرات التي تلت تلك الانتخابات بلدنا أمام إشكالية جديدة محورها العلاقة الجدلية بين الديمقراطية السياسية التي جسّدها الدستور الجديد والتقدّم في تركيز العديد من الهيئات الدستورية المنتخبة وبين الديمقراطية الاقتصادية والاجتماعية التي لا تزال مغيّبة بشكل إلى درجة ارتهان ما تحقّق من مكاسب على الصعيدين السياسي والمؤسّساتي.
لكلّ ذلك نقول أنّ المسار الانتقالي لا يبدأ باعتماد الدستور ولا ينتهي بإقراره بل بتلازم مسار الإصلاح السياسي الديمقراطي بمساري الإقلاع الاقتصادي الدامج والرقيّ الاجتماعي الضامن للكرامة والحماية والعدالة والمساواة. إنّه مسار طويل ومتشعّب، وهو بناء متواصل محكوم بنضج ووعي وتأهّل وإرادة وقدرة الأطراف المعنية على التحاور والتوافق والعمل الجماعي المتجرّد من الحسابات الفئوية والإيديولوجية والعقائدية، واستعدادهم للقبول بالآخر على اختلاف آرائه ومواقفه بوصفه مقوّما أساسيّا من مقوّمات الهوية الذاتية والجماعية. وهو محكوم أيضا بمدى قدرة الفرقاء والمتساكنين على تقاسم المضامين العامة لهذا الدستور وتملّكها والعمل بها والتقيّد بمقتضياتها.
إنّنا على يقين من أنّ الخروج من النفق لن يكون بالأمر الهيّن ما لم نجد السند الضروري والكافي لدى الهيئات الدولية ذات الاختصاص ولدى البلدان الديمقراطية في العالم والتي يهمّها كما يهمّنا إنجاح المسارات الانتقالية، فبلادنا في حاجة إلى دعم سخيّ لتوفير مقوّمات الإقلاع الاقتصادي وفق مفهومي التنمية المستدامة والعمل اللائق كما حدّدتها المواثيق ومعايير العمل الدّولية.
لقد آن الأوان لكي يتحمّل المجتمع الدولي وفي مقدّمته النقابات مسؤوليته للوقوف إلى جانب قوى التغيير والإصلاح والتقدّم في تونس وفي بقية البلدان العربية من أجل محاربة الإرهاب والدفاع عن قيم الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان وإعلاء تمشّي المقاربة الحقوقية لإنجاح مسارات الانتقال الديمقراطي دون تلكّئ أو تردّد. فخطر تفشّي الإرهاب واستشراء الاستبداد والفساد لا يزال جاثما على بلادنا بل وعلى المنطقة العربية بأسرها وقد يحوّلها إلى بركان قابل للانفجار في أيّ لحظة.
شكرا على حسن الاستماع، والســــــــــــــلام.