
الكاتب والمخرج المسرحي حمادي المزي في حوار خاص للشعب
أنا “دون كيشوت”الذي مازال يستهويه الحلم وحتى كوابيسه وما زال يحارب الطواحين بمختلف أشكالها المجازية والرمزية
حاورته أمل بوناب
حمادي المزي كاتب ممثل ومخرج مسرحي ومنشط ثقافي أصيل مدينة ماطر ولاية بنزرت وهو من خرجي مركز الفن المسرحي بتونس سنة 1974, واصل دراسته لفن المسرح بجامعة بول فاليري ( مونبيلييMontpellier – فرنسا). درس الفن المسرحي بالمعاهد الثانوية من سنة 1974 إلى سنة 1984 كما خاض المزي تجربة التمثيل من خلال مشاركته في أعمال فرقتي بلدية بنزرت وبلدية تونس وفرقة الكاف. وفي سنة 1989 أسس دار سندباد للمسرح كما أسس الجمعيّة التّونسيّة للفنّانين خرّيجي المعاهد العليا للفنون الدّراميّة سنة 2011 كما كلف برئيس اللّجنة الوطنيّة لانتقاء العروض المسرحيّة سنة 2013. شغل عديد المناصب الإدارية ضمن وزارة الثقافة, له عديد المسرحيات من أشهرها: مسرحيّة “النّاعورة”, “حدّث أبو حيّان التّوحيدي قال … “, “العاصفة”, “حقّ الردّ” “كواليس” حكاية طويلة “سينما” “النّاظرون إلى النّجوم” “الإستعراض”,”الكواسر”… وفيما يلي حوارنا مع المبدع حمادي المزي:
01- كيف ولجت عالم المسرح؟ متى بدأت الكتابة المسرحية؟ لماذا اتجهت مباشرة إلى فن المسرح وليس إلى جنس أخر كفن الرواية أو الشعر..؟
تولّد عندي حب التمثيل لأنّي كنت مولعا بمشاهدة الأفلام في قاعات السينما بمدينة منزل بورقيبة حيث درست المرحلة الابتدائية والثانوية:”راكس””مون سيني””ميتروبول””الأولامبيا” وكان الفن السّابع هو الفن الوحيد المتاح لي في تلك الفترة إلى جانب المذياع وما يبثه من تمثيليات ومسلسلات والتي كانت تحفزني على التقليد, وكنت أترجم كلّ ما أشاهده وأسمعه إلى كتابة مسرحيات قصيرة أمثلها صحبة أصدقائي وأقراني سواء كان ذلك في المرحلة الابتدائية أو الثّانوية وكان المحفز لإتجاهي إلى الفن المسرحي تشجيع الأستاذ المنجي كداس أحد أساتذتي الذي كان يكلفني بإعداد أ عمال مسرحية قصد تقديمها في الاحتفال بآخر السنة .ورغم وجود أجناس إبداعية أخري كنت أقبل عليها كقراءة الروايات والإهتمام بالشّعر والموسيقى إلا أني لمست أن المسرحكان قادرا على إستيعاب مختلف هذه التعبيرات لتنصهر فيه .
02- كنت من أول المساهمين في تأسيس المسرح الوطني التونسي وأيضا أول المستقيلين منه رغم علاقتك المتينة بالراحل المنصف السويسي. فما أسباب الاستقالة؟ هل ندمت؟
لما كنت مديرا لدار الثّقافة ابن زيدون بالعمران سنة 1983 طلب مني المرحوم المنصف السويسي أن أكون ضمن الفريق المؤسس للمسرح الوطني التونسي فقبلت وكلّفت أنذاك بقسم التنشيط والترويج, كما قدمت مشروعا نموذجيا أرسي فيه قواعد مسرح الشباب,إّذ كان ضمن إطار هذه المؤسسة حوالي 10 أساتذة مسرح ملحقين درّسوا في مختلف المعاهد الثانوية وهو التبرير الموضوعي لهذا المشروع في منطلقه وأنجزت مسرحية “أحبك يا متنبي”سنة 1985 والتي مثّلت تونس في الدورة الثانية لأيام قرطاج المسرحية وقد مكننا ذلك من إحداث ديناميكية ورؤية جديدتين لمسرح الشباب معتمدين على التكوين والإنتاج, بدأ هذا المشروع يكتسي شرعيته بتنظيم تظاهرات في صلب المعاهد وفي مختلف ولايات الجمهورية من خلال تنظيم أيام المسرح الوطني,لكن هذا التمشي أثار حفيظة المقربين من المرحوم المنصف السويسي الذين مارسوا ثقافة النميمة ومعاقبة الكفاءة وتم إجهاض هذا المشروع مما دفعني إلى الإستقالة من المسرح الوطني وعدت إلى التدريس,ولم أندم بل كان سببا في تأسيس فضاء إبداعي خاص واصلت فيه تثبيت مشروعي المسرحي من خلال دار سندباد التي أسستها سنة
03- قريبا ستحتفل بمرور 30 سنة على تأسيس دار سندباد للمسرح والتي برصيدها 19 عملا مسرحيا’ ماهي اقرب الأعمال إلى قلبك؟ هل تعتبر نفسك قد نجحت في أداء رسالتك كمبدع؟
أنا شخص لا يستهويني الركون ولا أرتاح الى الإطمئنان.أنا “دون كيشوت”الذي مازال يستهويه الحلم وحتى كوابيسه وما زال يحارب الطواحين بمختلف أشكالها المجازية والرمزية وما زلت أقذف بنفسي كلّ مرة خارج نفسي بحثا عن دروب جديدة في هذا الفن العظيم لان المسرح فن حي ومتجدد .أحاول أن أحفر في مجال عملي وأبحث عن تلك الجوهرة الغامضةl indiffinissable substance التي بحث عنها قبلي رواد المسرح العالمي,أحاول أن أكون أفضل مسرحي ,لأنك إذا لم تكن الأول فلا أهمية أن تكون الثاني أو
العاشر لذلك أنا حريص على تجديد خلايا معرفتي وتجاربي حتي لا أكرر نفسي.”نوم العقل يوقظ الوحوش”كما قال الرسام غويا.
سأحتفل في أواخر هذه السنة بمرور 30 سنة على تأسيس دار سندباد التي أنجزت فيها 19 عملا مسرحيا ,وكلها قريبة من وجداني أحببتها وكرهتها فأنا ضد التفاؤل الشعري والتاريخي لكني مع الأمل الوجودي وقد أبرزت ذلك في مختلف أعمالي, حاولت كل مرة أن أصنع “المعجزة الفنية” في ظل العوائق والهزائم. ويصعب علي تقييم تجربتي من خلال هذا المسار بسهوده وخموده فالأمر موكول إلى النقاد والباحثين المتمرسين الذين يشاهدون المسرح ويتابعونه عن قرب بالنقد والتحليل وكذلك الجمهور
04- في مسرحية “الكواسر” راهنت على مسرحيين شبان واعتمدت خطابا مشفرا غير مباشر بلغة عربية فصحى, هل اعتمدت هذا الأسلوب إيمانا منك بان مسرح النخبة هو الأفضل في خلق التأثير الحسي والذوقي لدى المتلقي أكثر من المسرح الشعبي؟
يعد تشريك الشباب في أعمالي المسرحية تمشيا وضعت لبناته منذ أواسط السبعينات في المسرح المدرسي والجامعي ومسرح الهواة. أردت مع هذه الشريحة أن أصنع مسرحا نخبويا بسيمات شعبية وأن نرتقي بالذائقة الجماهيرية إلى درجات أعلى ويبقى المسرح من أكثر الفنون هشاشة في ظل المتغيرات ,لكنه الأكثر إشعاعا عندما تتوفر له الإدارة السياسية والظروف الموضوعية.
05- هل قدم حمادي المزي أعمالا مسرحية رصدت سلبية الواقع السياسي والاجتماعي السابق باعتبارها مرحلة استبدادية أجهضت أحلام التونسيين إلى حد ما؟
كل عمل مسرحي ّمقترن بالضرورة بالأن والهناء,وهو يعبر على إختلاجات واقعه الإجتماعي .تعرضت الى مضايقات الرقابة المسرحية في دار سندباد في ثلاث مناسبات, الأولى في مسرحية “الناعورة”سنة 1989 والثانية “ويستمر التحقيق” سنة 1993 والثالثة “حق الرد”سنة 2009 ,وكان عليّ أن أعود إلى المدونة المسرحية العالمية من خلال نظريات المسرحي “براشت” وأستقي منها نظرية:العوائق الخمس لكتابة الحقيقة فاعتمدت:الذكاء ,والشجاعة, والفن, والحيلة,والتمييز.
06- كيف تحدد تقنياتك في الإخراج؟
التقنيات في المسرح جزء لا يتجزء من الرؤية الإخراجية فهي عناصر ديناميكية نتيجة التصور السيميولوجي للإخراج وتقيم علاقة توافق وتناسب في كامل الفرجة المسرحيةun jeu de correspondances et de proportions
07- حسب رأيكم هل هناك ضرورة ملحة اليوم لمسرحة واقعنا السياسي والاجتماعي المضطرب وتصويره بشكل فني من خلال مشاهد مسرحية نقدية واضحة أو مشفرة تسعى لإيجاد الحلول والمعالجات البناءة؟
كان المسرح منذ القدم مقترنا بواقعه الإجتماعي والسياسي ويعبّر عنه بأشكال مختلفة وهو ما يضفي عليه الجانب الحيوي والديناميكي فأصول المسرح اليوناني كانت مرتبطة بالطقوس الخاصة بالألهة التي تم نقدها من بعد في مسرح “أرستوفان”.أما في روما القديمة فكانت الأعياد الرسمية تحتوي على عروض مسرحية وتجلب جمهورا هائجا وصاخبا ويقوم بالأدوار العبيد المتحررون les affranchis .أما المسرح القروسطي فقد ظهر في أماكن التعبد كالأديرة والكنائس. وبالتوازي تطور المسرح الهزلي الذي قطع مع الكنيسة وظهرت أول أوبيرا هزلية كما ظهرت في إيطاليا الملهاة الفنية.المسرح الإيليزاباتي إزدهر في أنقلترا متجاوزا الإقتباسات العالمية من المسرحيات التراجيدية وبحث عن أشكال خاصة بمجتمعه. أما المسرح الكلاسيكي الفرنسي وانطلاقا من الأبحاث حول فن الرسم المنظوريla perspective فقد تمكن من إبتكار مبدإ الركح على الطريقة الإيطالية.أما المسارح التي ظهرت في بداية القرن العشرين من مسرح العبث والخام ومسرح الإثارة والتحريض والتجريبي والوثائقي والمخبري والمسرح الفقير والمسرح الشامل فتهدف كلها إلى مخاطبة حواس الجمهور وهدم الحدود بين الحياة والإبداع .
أردت من هذا كله القول أن الفن المسرحي فن جدليّ له القدرة الفائقة على الإستفادة من كل الأجناس الإبداعية بحثا عن صيغ مثلى في طرح مشاغل العصر ونقدها بأساليب مختلفة.
08- ألا يمكن القول اليوم أن الدراما التلفزيونية طغت على المسرح فألقت به في الظل؟ مارأيك؟
علاقة المسرح بالتلفزة علاقة يشوبها الغموض وهي تحتاج إلي وقفة تأمل حازمة لتوضيح العلاقة المتشعبة بين الهيكلين.فالمسرح لا يدر على الممثل الربح الذي يقابل مجهود عمله في إنجازعمل يستغرق أكثر من 4 أشهر, لذلك تغريه المشاركات في الأعمال التلفزية للحصول على أموال أكثر وتحقيق الشهرة بشكل أسرع.
09-كنت في بعض الأعمال المخرج والمؤلف والممثل وحتى مصمم أزياء الممثلين, ألا تعتقد أن هذا التداخل يؤثر على العمل المسرحي؟ أتؤمن بالتخصص الفني؟
العمل المسرحي يبدأ بانبلاج فكرة تنبت في ذهن الكاتب فيصيغها ثم تتفرع إلى عدة إختصاصات . وقد حدث ان قمت بتصميم ملابس مسرحية “الكواسر” بنفسي لأنها إعتمدت على مناخات عجائبية وغرائبية وكنت أقوم برسم الملابس وأنجزها وأعدلها حسب رؤيتي الإخراجية. أما في ما يخص الكتابة فإنها تعبر عن فكر المبدع واهتماماته الايديولوجية والجمالية ولا ينتظر أحدا ليعبر له عن خطابه .
10- هل أزمة المسرح التونسي هي أزمة نص؟ أم إخراج؟ أم جمهور؟ أم ماذا؟
لا يمكن الحديث عن أزمة في المسرح التونسي لأنه ليس لنا تجربة عريقة كالمسرح الصيني أو الياباني أو الفرنسي أو الإنقليزي فالتجربة المسرحية التونسية حديثة ولم تعش التراكم المعرفي التي عاشته تلك المسارح ,لذلك لم تبتكر نظرية ولا مدرسة ولا منهاجا خاصا بالمسرح التونسي بل هذه تجربة هجينة إستفادت واقتبست من المدونة المسرحية العالمية ومن أطروحاتها,ولذلك لا يمكن الحديث عن أزمة بقدر ما يمكن الحديث عن إختلال في الممارسة المسرحية. هذه الإخلالات تراكمت بسبب غياب التفكير السياسي حول المسرح.
11- هل يمكن الحديث اليوم عن نقد مسرحي متخصص يؤثر في صيرورة المسرح العربي ويطوره فنيا وفكريا؟ أم أننا لم نصل بعد إلى هذه المرحلة؟
النقد المسرحي الراهن يعيش حالة إنتكاس كبيرة لإنسحاب الأقلام المتميزة التي صنعت ربيعه وساهمت بقدر كبير في تطوير التجربة المسرحية على إمتداد 40 سنة.أما الأن نادرا ما نجد مقالا يستوفي حق الفرجة المقترحة نقديا.بل هي كتابات جافة تعتمد الملفات الصحفية ولعل الأزمة تعمقت بسبب غياب الفضاءات النقدية المختصة كالمجلات والدوريات والحوليات…
12- ماهي ملامح مشروعك المسرحي الجديد؟
أنجزت كتابا ب 520 صفحة بعنوان: دار سندباد النشأة والمسار بدعم من الهيئة العربية للمسرح وقدمه لي الاستاذ محمد مومن كما ذيلته لي الاستاذة فوزية بلحاج المزي. وأتعرض فيه الى تجربتي المسرحية بدار سندباد على إمتداد 30 سنة من خلال 19 عملا مسرحيا.
كما أنجزت شريطا وثائقيا بعنوان :”ثلاثون وبعد …” وسيعقب ذلك مسرحية “النار الباردة”لإنجازها في إطار الإحتفال بثلاثينية دار سندباد هذه السنة إن شاء الله.ولي مشاريع أخرى بصدد التشكل إذا مازال في العمر بقية .